لا تزال الثورة الجزائرية ملحمة تاريخية أعطت للمستعمر دروسا في البطولات، وخزانا لا ينفذ يستمد منه الشعب الجزائري الأمجاد والعبر.
ومن أهم الأحداث التي ميزت السبع السنوات ونصف من الثورة التحريرية وكان لها الدور الكبير في تدويل القضية الجزائرية، مظاهرات 11 ديسمبر1960، التي دوى بها صوت الثورة خارج الوطن وبها انكشف للعالم وحشية مستعمر لا يعترف بالإنسانية وتعدى بجرائمه كل الحدود.
تبقى الذاكرة هي وقود تطوير الأمم، وفي ظل المناسبة ورغبة منا في الوقوف على الحدث ليس لاسترجاع الأمجاد فحسب، بل لاستخلاص الدروس والعبر وبحث سبل ربط الجيل الجديد بماضية توقفنا عند بعض المحطات.
الدكتورة علامة: “مظاهرات 11دسيمبر كانت ملفتة للنظر من حيث الظرف والحجم والفعالية”
تؤكد الدكتورة علامة صليحة المختصة في التاريخ المعاصر بجامعة الجزائر 2، أن مظاهرات 11ديسمبر 1960 تشكل منعطفا حقيقيا في تاريخ الكفاح التحرري للشعب الجزائري وفي هذا الصدد تقول: “المظاهرات لم تبدأ يوم 11 ديسمبر، بل البداية كانت في التاسع من ديسمبر من ولاية عين تموشنت ودامت إلى غاية 16 من ذات الشهر، حيث انتقلت إلى عدة ولايات، وتخصيص تاريخ ديسمبر 11 لأنه ارتبط بالمظاهرات في الجزائر العاصمة التي استقطبت آنذاك الإعلام الأوروبي، الذي رافق زيارة ديغول للجزائر”.
وعن أبعاد الحدث تحدثت الأستاذة صليحة علامة عن أهمية هذه المظاهرات السلمية التي كانت ملفتة للانتباه من حيث الظرف والحجم والقيمة والفعالية.
فمن حيث الظرف تضيف محدثتنا قائلة: ” تزامنت مع زيارة ديغول للجزائر، حيث انطلقت من عين تموشنت يوم 9 ديسمبر باعتبارها أول محطة نزل بها ديغول، ليجدها حيثما حل من حيث التنظيم والإصرار لتعم بعد ذلك كامل التراب الوطني، ولم تتوقف إلا في 16 ديسمبر بأمر من الحكومة المؤقتة، كما تزامنت هذه الأحداث مع اشتداد التوتر الداخلي في فرنسا وتنامي التيار المعادي لديغول والمؤمن بفكرة الجزائر فرنسية، إضافة إلى اقتراب موعد انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة وطرح القضية الجزائرية للنقاش “.
المظاهرات كانت إجابة قاطعة للاستفتاء الميداني لديغول
وقد شارك في المظاهرات الجزائريين من مختلف الفئات العمرية والاجتماعية تضيف الدكتورة قائلة: “عمت المظاهرات القرى والمدن، وكانت منظمة ومخططة ولم تكن ارتجالية ومفاجئة للمستوطنين والسلطات الفرنسية، وقد عبرت بشكل جلي عن موقف الشعب الجزائري من القضايا المطروحة في الساحة كفصل الصحراء وإطلاق سراح المعتقلين، من خلال اللافتات التي حملها المتظاهرون، وكانت إجابة قاطعة للاستفتاء الميداني الذي باشره ديغول ليعرف عن قرب موقف الجزائريين من المشاريع التي طرحها، وعن الأحداث قال الجنرال مورين في تقرير له: ” لقد تلاحم الشعب الجزائري وصمم على استقلاله تحت قيادة جبهة التحرير الوطني “.
ولعل وجود الصحافة الدولية والمراسلين الذين رافقوا زيارة ديغول للجزائر هو ما أعطى البعد الدولي والفعالية للحدث وفي ذات السياق تقول الباحثة صليحة علامة: ” لم تكن المظاهرات حدثا مفصليا للجزائريين فحسب، بل لكل الشعوب التي كانت تكافح ضد الاستعمار والاضطهاد وكانت سببا مباشرا في إصدار أكبر قرار دولي وهو قرار 16/14 يوم 14 ديسمبر 1960 والذي نص على حق كل الشعوب في تقرير مصيرها، وبالتالي كان الشعب الجزائري جبهة ثالثة بعد الجبهة السياسية والعسكرية “.
المظاهرات التي بدأت سلميا وانتهت بالدماء حققت عدة نتائج إيجابية
سبق المظاهرات معارضة المستوطنين لسياسة ديغول والذين حاولوا دفع الجزائريين المشاركة فيها، ولكن قيادة الثورة بفضل حنكة رجالها وعبقرية قيادتها استغلتها لتوصل صوتها ولتصبح القضية الجزائرية قضية دولية.
وقد تفجأ المستوطنون أنفسهم بالشعارات التي كان يحملها المتظاهرون والراية الوطنية المعبرة عن مقومات الأمة الجزائرية.
وعلى الرغم من الجرائم الفرنسية في حق المتظاهرين السلميين والخسائر البشرية التي راح ضحيتها العشرات من الجزائريين تقول محدثتنا “فقد اعترفت الأمم المتحدة بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره وقضت على أحلام المدافعين عن ما يسمى بالجزائر الفرنسية وهذا ما أجبر فرنسا على الدخول في مفاوضات غير مشروطة مع الجزائريين”.
ومن جهة أخرى أعطت هذه الأحداث نفسا جديدا للثورة وعملت على تقوية الوفد الخارجي وتسهيل مهمته، كما أثبتت للعالم أنها ثورة شعبية هدفها الاستقلال التام وأبرزت أهمية الوحدة الوطنية والتماسك بين الشعب الجزائري وقيادته.
وعلى صعيد آخر فقد وصفت الصحافة الدولية المظاهرات بأنها ساعة الحقيقة ونهاية الأوهام والأكاذيب.
علامة: “علينا التركيز على الصفحات المشرقة من تاريخنا لبث روح الأمل في نفوس الشباب”
لا يختلف اثنان حول أهمية التاريخ والذاكرة في حياة الأمم والشعوب، ولضمان التفاف الشباب الجزائري بأمجاده وماضيه المشرف والمشرق تقول الدكتورة صليحة علامة “علينا الاعتناء بمادة التاريخ وخاصة تاريخ الجزائر وأن نركز على الصفحات المشرقة لبث روح الأمل في نفوس الشباب”.
والتجربة الألمانية تقول محدثتنا أعطت للعالم دروسا حول أهمية الذاكرة، لأن بعد الحرب العالمية الأولى وانهيار ألمانيا في كل المجالات ولا سيما البنية التحتية، وحين قرر هتلر استعادة أمجاد الألمان والانتقام من الهزيمة، قال” ذكروا الألمان بأمجادهم”، وهذا الالتفاف حول الذاكرة ما جعلها تستجمع قوتها وتعيد أمجادها لتحتل فرنسا في وقت قياسي أثناء الحرب العالمية الثانية، لذا فالاهتمام بطرق تدريس تاريخ الجزائر هو ما يعيد للأمة أمجادها ويضمن بناء مستقبل واعد لأبنائها”.
المجاهد عبد الكريم بن رايس: “مظاهرات 11 ديسمبر 1960 علامة فارقة في تاريخ الثورة الجزائرية”
أكد المجاهد عبد الكريم بن رايس ان مظاهرات 11 ديسمبر 1960 حدث مفصلي في تاريخ الثورة الجزائرية زادت من قوتها داخليا وخارجيا وعلى جميع الأصعدة والمستويات الشعبية ، العسكرية والسياسية.
يعد المتحدث من المنظمين والمشاركين لمظاهرات 11 ديسمبر 1960 حيث يقول: “بدأنا التحضيرات لمظاهرات 11 ديسمبر 1960 بعد تلقينا الأوامر من القيادة قبل أسبوع من انطلاقها وهذا من خلال التوعية بضرورة المشاركة وكذا توزيع الأعلام والرايات و كتابة شعارات على الجدران رافضة للاستعمار وباعثة للروح الوطنية مثل “الجزائر جزائرية ” ،”كفانا تعذيب” ،” تحيا الجزائر” وغيرها”.
ويضيف قائلا: ” انطلقت مظاهرات 11 ديسمبر 1960 بقيادة الشهيد “بوعلام روشاي“ من منطقة المدنية لتعم الأحياء والمدن المجاورة التي أبان سكانها عن شجاعة كبيرة وصمود منقطع النظير“.
وعن نتائج المظاهرات يضيف“ السي ناصر“: ” لقد خلقت المظاهرات ذعرا كبيرا في الأوساط الاستعمارية ما حرر المجاهدين والثوار خاصة بعد الضغط الرهيب الذي كانت تعيشه المنطقة السادسة“.
وعن انعكاس المظاهرات على الرأي العام العالمي يقول: ” لقد أثبت الشعب الجزائري من خلال مظاهرات 11 ديسمبر 1960 دعمه المطلق لجبهة التحرير الوطني واصطفافه بها، واكد على انها الممثل الوحيد والشرعي له“.
” أثبتت الاحداث أنها ثورة شعبية هدفها الاستقلال وأبرزت أهمية الوحدة الوطنية ”
أمينة فار: “صليحة وثيقي صاحبة 13 عاما أبرز شهيدات الوطن في المظاهرات”
تحدث أمينة فار رئيسة جمعية حسيبة بن بوعلي، عن الذكرى مسترجعة بعض التفاصيل التي حدثت في المظاهرات، بالقول: “تعتبر مظاهرات 11 ديسمبر 1960 من أهم محطات تاريخ الجزائر التي تستحق كل الاهتمام و التقدير، وتعد حدثا تاريخيا بارزا في مسيرة الثورة التحريرية، فقد تم بفضلها اختراق صمت الأمم المتحدة، معلنة قوة التلاحم الشعبي للجزائريين الذين خرجوا في مظاهرات عبر شوارع المدن الجزائرية حاملين العلم الوطني رمز العزة، مؤكدين بذلك رفضهم القاطع لمخططات الجنرال ديغول في القضاء على الثورة وتحطيمهم نهائيا خرافة الجزائر فرنسية وتعد صليحة وثيقي طفلة صاحبة 13 عاما إحدى شهيدات الوطن ومن بين الأطفال الذين خرجوا للمطالبة بحقوقهم وهو الحق في الاستقلال ولقت مصرعها خلال أحداث 11 ديسمبر على يد المستعمر وهنا تبرز بشاعة الجرائم التي مارستها فرنسا ضد البراءة في الجزائر” .
التاريخ صمام الأمان لبناء الحضارة وحماية التراث الإنساني
يؤكد الطالب آدم الأمين في قسم الماستر من تخصص التاريخ، أنه باستقراء التاريخ نجد أن الأمم في حركتها لا تحركها الجماهير بل النخب، ولعل أهم النخب المؤرخين، لذا فالتاريخ هو صمام أمان لبناء الحضارة وحماية للتراث الإنساني .
وفي ذات السياق يقول آدم “اليوم نعيش تحد حقيقي في حماية تاريخنا وذاكرتنا الوطنية بسبب كثرة الأقلام التي تريد ضربها ومن واجبنا كباحثين حماية أجيالنا من التدجين والتهجين ولتراثنا وأرشيف أبطالنا من الضياع، ولعل أهم السبل في ذلك التقيد بالأمانة العلمية في الكتابة واتباع الخطوات الصحيحة للتأليف في التاريخ”.
ويضيف محدثنا: “علينا كتابة تاريخنا غير منقوص ولا إقصاء وتحرير القيود الموجودة، ذلك أن الظروف تحتم علينا التصالح مع الذاكرة، للتقدم والمضي قدما لمواكبة التطورات ومتطلبات العصر، وإعادة النظر في المناهج المقدمة للتلميذ الذي صار يعتبر مادة التاريخ جافة معدة للتلقين والحفظ وليس للبحث والنقاش والتحليل.”
كما أن على القائمين على دراسة التاريخ يقول محدثنا تغيير الذهنيات والاعتماد على الخرجات الميدانية واكتشاف المناطق الاثرية للتعريف بمقومات الشخصية الجزائرية وتنمية مهارات الطفل لترسيخ الذاكرة في وجدانه واعتزازه ببطولات شعبه.
من جهة أخرى أكدت الطالبة أميرة بن عياد في تخصص تاريخ عثماني من جامعة الجزائر2 أن دراسة التاريخ صار حتمية أمام محاولات الأعداء التلاعب بتاريخنا لطمس معالمه، لذا تقول: “الاهتمام بالتاريخ هو تعزيز للحس الوطني والثقة في نفوس الشباب اليوم والأجيال القادمة، كما أن دراسته تعتبر فرصة للاستفادة من أخطاء الماضي لتجنبها حاضرا ومستقبلا” .
وتضيف بن عياد قائلة: حتى اليهود مثلا الذين لا يملكون تاريخ ومدارسهم تدرس أحداث كاذبة، وتعتبر مادة التاريخ عندهم من أقوى المعاملات.
وتؤكد محدثتنا بالقول: “علينا العمل على وضع برامج ومناهج تحبب مادة التاريخ للطفل وترسخ فيه الاعتزاز بذاكرته”.
الشهيد بوعلام روشاي
لا يمكن الاحتفال بذكرى 11 ديسمبر 1960 دون ذكر مهندس المظاهرات وصاحب السبق فيها الشهيد “ بوعلام روشاي ” المدعو “السي الزبير” .
ولد الشهيد البطل في 09 جانفي 1936 ، انضم لخلايا الفدائيين بجبهة التحرير الوطني في فيفري 1957 على مستوى مدينة بلكور- بلوزداد حاليا-.
كان عضوا بارزا في المنطقة الثانية للولاية الرابعة ضمن الكتيبة المشهورة “الحمدانية ” وخاض عدة معارك أبرزها معارك شرشال، الشفة، موزاية، تمزقيدة و المعالمة.
في سنة 1960 أرسل في مهمة الى العاصمة من طرف العقيد “الجيلالي بونعامة” رفقة عدد من الضباط في جيش التحرير منهم “بوسماحة” ، “محمد مولاي زين الدين”، “بوراي سعيد”، “بلحاج جعفر”، “علي سلامي” و” جمال بناي” .
يقول عنه هذا الأخير المجاهد جمال بناي في مذكراته “دم الحرية”: ” لقد تمكن السي الزبير عند وصوله للعاصمة من إحراز تقدم لا بأس به في مهمة التنظيم والاتصال بقادة نشطين جدا في منطقة الساحل خاصة بعد انهيارها عقب معركة الجزائر”
ويضيف المجاهد احمد بناي : ” التحقت بالسي الزبير من بئر خادم الى بلكور يوم مظاهرات 11 ديسمبر 1960 والتي دعا إليها بنفسه و جمع الشباب حوله وحثهم على نقلها لبقية الاحياء والمدن مستغلا الوضعية خاصة بعد خطاب شارل ديغول يوم 09 ديسمبر 1960 بعين تيموشنت، والذي اطلق فيه عبارة الجزائر جزائرية”.
وعن علاقته ببوعلام روشاي كتب جمال بناي: ” لقد كنا رفيقي كفاح منذ سنة 1957 وانا من اقترحت عليه اسم السي” زبير” ، كان يستشيرني في كل الأمور عند التحاقه بمنطقة الساحل، عشنا لحظات عصيبة أبان فيها السي زبير عن صلابة وقوة نادرتين”.
وعن استشهاد بوعلام روشاي يقول صاحب مذكرات “دم الحرية”: ” لقد طال مقام السي الزبير ببلكور ونبهته للمغادرة يوم استشهاده لكن الأجل سبقه و تلقيت خبر استشهاده عبر الاذاعة”.
التحق بوعلام روشاي بالرفيق الأعلى في 11 جانفي 1961 رفقة السي محمد خليفة في مخبأ بشارع “لامارتينٍ” حيث داهمتهم القوات الفرنسية حيث قاوما ببسالة ورفضا الاستسلام حتى فاضت روحهما وبيديهما السلاح، هذا المنظر الذي أثار إعجاب و دهشة جنود الاستعمار الذين وقفوا وقفة احترام للشهيدين بأمر من قائدهم.
من إعداد: ز.بن عياد/ بصحراوي.ع/ داود. ت
مناقشة حول هذا المقال